سورة الأحزاب - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد كانوا عاهدوا اللهَ من قَبلُ} أي: قبل غزوة الخندق، وهو يوم أحد. والضمير في {كانوا} لبني حارثة، عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، حين فشلوا، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله، وقالوا: {لا يُوَلُّونَ الأدبارَ}؛ منهزمين أبداً، {وكان عهدُ الله مسؤولاً} عن الوفاء له، مُجازىً عليه، أو: مطلوباً مقتضى حتى يوفى به. {قل لن ينفعَكُم الفرارُ إن فَررتُم من الموت أو القتل}، فإنه لا بد لكل شخص من حتفِ أنفه، أو: قتل في وقت معين سبق القضاء وجرى به القلم، {وإذاً لا تُمتَّعُون إلا قليلاً} أي: إن حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار، وإن لم يحضر، وفررتم، لن تُمتعوا في الدنيا إلا زماناً قليلاً، وهو مدة أعماركم، وهو قليل بالنسبة إلى ما بعد الموت الذي لا انقضاء له.
{قل مَن ذَا الذي يَعصِمُكُم من الله} أي: يمنعكم مما أراد الله إنزاله بكم؛ {إن أراد بكم سوءاً} في أنفسكم، من قتل أو غيره، {أو أراد بكم رحمةً} أي: أراد بكم إطالة عمر في عافية وسلامة. أو: مَن يمنع الله من أن يرحمكم، إن أراد بكم رحمة، فَحُذِفَ؛ سوءاً، أو يصيبكم بسُوء، إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام. {ولا يجدون لهم من دون الله ولياً} ينفعهم، {ولا نصيراً} يدفع العذاب عنهم.
الإشارة: ولقد كان عاهدَ الله؛ مَنْ دخل في طريق القوم، ألاَّ يولي الأدبارَ، ويرجع إلى الدنيا والاشتغال بها حتى يتفتّر عن السير، وكان عهد الله مسؤولاً، فيسأله الحق تعالى عن سبب رجوعه عن الإرداة، ولماذا حَرَمَ نَفْسَهُ من لذيذ المشاهدة؟ قل- لمَن رجع، ولم يقدر على مجاهدة نفسه: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت لنفوسكم، أو القتل؛ بمجاهدتها وتجميلها بعكس مرادها، وتحميلها ما يثقل عليها، وإذا لا تُمتعون إلا قليلاً، ثم ترحلون إلى الله، في غم الحجاب وسوء الحساب. قل: مَن ذا الذي يعصمكم من الله، إن أراد بكم سوءاً؟ وهو البُعد والطرد، أو: مَن يمنعكم من رحمته، إن أراد بكم رحمة، وهي التقريب إلى حضرته، فلا أحد يعصمكم من إبعاده، ولا أحد يمنعكم من إحسانه؛ إذ لا وليّ ولا ناصر سواه. اللهم انصرنا بنصرك المبين، وارحمنا برحمتك الخاصة، حتى تُقَرِّبَنَا إلى حضرتك، بفضل منك وجودك، يا أرحم الراحمين.


يقول الحق جلّ جلاله: {قد يعلم اللهُ المعوِّقين منكم} أي: يعلم مَنْ يُعوِّقُ عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَمْنَعُ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو، {والقائلين لإخوانهم} في الظاهر؛ من ساكني المدينة من المسلمين: {هَلُمَّ إلينا}؛ تعالوا إلينا، ودعُوا محمداً. ولغة أهل الحجاز في {هلم}: أنهم يُسوون فيه بين الواحد والجماعة. وأما بنو تميم فيقولون: هلم يا رجل، وهلموا يا رجال.. وهكذا. {ولا يأتون البأسَ}؛ الحرب {إلا قليلاً}؛ إلا إتياناً قليلاً، أو يحضرون ساعةً، رياءً، ويقفون قليلاً، مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون. {أشِحَّةٌ عليكم}؛ جمع شحيح، وهو البخيل، نُصب على الحال من ضمير {يأتون} أي: لا يأتون الحرب؛ بُخلاً عليكم بالمعاونة أو بالنفقة في سبيل الله، أو: في الظفر والغنيمة، أي: عند الظفر وقَسْم الغنيمة. {فإذا جاء الخوفُ} من قِبَلَ العدو، أو: منه صلى الله عليه وسلم، {رأيتهم ينظرون إليك}؛ في تلك الحالة، {تدور أعينُهم} يميناً وشمالاً {كالذي يُغْشى عليه من الموت}؛ كما ينظر المغشي عليه معالجة سكرات الموت؛ حذراً وخوفاً ولِواذاً بك.
{فإذا ذهبَ الخوفُ} أي: زال ذلك الخوف وأمِنوا، وحيزت الغنائم {سلقوكم بألسنةٍ حِدَادٍ}؛ خاطبوكم مخاطبة شديدة، وآذوكم بالكلام، يقال: خطيب سِلق: فصيح، ورجل مِسْلق وسَلاَّق: مبالغ في الكلام. يعني: بسطوا ألسنتهم فيكم، وقت قسم الغنيمة، ويقولون: أعطنا؛ فإنا قد شهدنا معكم، وبمكاننا غَلبتم عدوكم. {أشِحَّةً على الخير} أي: خاطبوكم؛ أشحة على المال والغنيمة. فهو حال من فاعل سلقوكم، فهم أشح القوم عند القسم، وأجبنهم عند الحرب، {أولئك لم يؤمنوا} في الحقيقة، بل بالألسنة فقط، {فأحبط اللهُ أعمالهم}؛ أبطلها، بإضمار الكفر مع ما أظهروا من الأعمال الخبيثة، {وكان ذلك} الإحباط {على الله يسيراً}؛ هيناً.
الإشارة: هذه صفة منافقي الصوفية، يدخلون معهم على تذبذب، فإذا رأوا قوماً توجهوا لخرق عوائدهم وتخريب ظواهرهم، أو: أرادوا الخروج عن دنياهم، عَوَّقُوهُمْ عن ذلك، وثبطوهم، وكذلك إذا تواجهوا في سفر لشُقة بعيدة؛ ليستتروا بهم، وقالوا لأخوانهم في الطريق: هلم إلينا، ولا يأتون مكان حرب أنفسهم إلا قليلاً. أشحةً بأنفسهم عليكم، فإذا جاء الخوف، وتجلّى لهم الحق تعالى باسمه الجليل؛ بأن نزلت بالفقراء محنة، رأيْتَهُمْ ينظرون إليك، تدور أعينهم، نظر المغشي عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف، وجاء النصر والعز؛ سلقوكم بألسنة حداد، وقالوا: إنا كنا معكم، أولئك لا نصيب لهم مما للقوم من الخصوصية. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {يَحْسَبُون} أي: هؤلاء المنافقون {الأحزابَ}، يعني: قريشاً وغطفان، الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: اجتمعوا، أنهم {لم يذهبوا} ولم ينصرفوا؛ لشدة جُبنهم، مع أنهم انصرفوا. {وإن يأتِ الأحزابُ} كرة ثانية؛ {يودُّوا لو أنهم بادون في الأعراب}، والبادون: جمع باد، أي: يتمنى المنافقون- لجُبنهم- أنهم خارجون من المدينة إلى البادية، حاصلون بين الأعراب؛ ليأمنوا على أنفسهم، ويعتزلوا مما فيه الخوف من الحرب، {يسألون} كل قادم منهم من جانب المدينة. وقرئ {يَسَاءلون}، بالشد. أي: يتساءلون، بعضهم بعضاً {عن أنبائكم}؛ عن أخباركم وعما جرى عليكم، {ولو كانوا} أي: هؤلاء المنافقون {فيكم} أي: حاضرون في عسكركم، وَضَرَ قِتَالٌ، {ما قاتلوا إلا قليلاً}؛ رياءً وسمعة، ولو كان لله؛ لكان كثيراً؛ إذ لا يقل عمل لله.
الإشارة: الجبان يخاف والناس آمنون، والشجاع يأمن والناس خائفون، ولا ينال من طريق القوم شيئاً جبانٌ ولا مستحي ولا متكبر. فمن أوصاف الضعفاء: أنهم، إذا نزلت بالقوم شدة أو محنة- كما امْتُحِنَ الجنيد وأصحابه- يتمنون أنهم خارجون عنهم، وربما خرجوا بالفعل، وإن ذهبت شوكتهم؛ يحسبون أنهم لم يذهبوا؛ لشدة جزعهم. ومن أوصافهم: أنهم يكثر سؤالهم عن أخبار القوم، والبحث عما جرى بهم؛ خوفاً وجزعاً، ولو مضوا معهم لم يغنوا شيئاً. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8